دراسة في إعجاز كتابة القرآن

دراسة في إعجاز كتابة القرآن

محمد شملـــول

حينما تفتح المصحف الشريف تجد ان القرءان الكريم له كتابة فريدة تختلف حروف كلماتها القرءانية في احيان كثيرة عن الكتابة الاملائية المعتادة وذلك من حيث حذف بعض الحروف من بعض الكلمات القرآنية ؛ مثل : حذف( حرف الألف ، والياء ، والواو ، والتاء ، والنون ، واللام ) مثل حذف حرف الالف في ( الرحمن -- مالك --- صاحبة ...)-- سواء نطقت هذه الحروف او لم تنطق . أو زيادة بعض الحروف في بعض الكلمات القرآنية ؛ مثل زيادة (: حرف الألف ، والياء ، والواو .) مثل زيادة حرف الالف في ( لكنا هو الله ربي) زاد حرف الالف في ( لكن )-- كذلك ( لا تقولن لشاىء )-- زاد حرف الالف في ( شىء ) -- في سورة الكهف سواء نطقت هذه الحروف او لم تنطق -- كذلك نجد اختلافا في رسم الهمزة في بعض الكلمات القرآنية مثل (العلمؤا -- الملؤا -- يبدؤا )--- كذلك نرى في بعض الكلمات إبدال بعض الحروف بحروف أخرى ( مثل الصلوة -- استبدلت الالف بحرف (و)--- كذلك نرى .وصل بعض الكلمات ، أو فصلها في أماكن مختلفة -- مثل ( ان لا -- الا)-- (ان ما -- انما )--( ما ل هذا الرسول ). فصل حرف اللام ---
وقد حاولت بجهدي المتواضع أن أجد إشارات موحية للأسباب التي وراء حذف بعض الحروف . أو إضافة حروف أخرى ، وتغير شكل الكلمة القرآنية بإبدال بعض الحروف . أو وصل الكلمات . أو فصلها ؛ وذلك على أساس أن أي حرف فى القرآن الكريم له فائدة سواء وجد ، أو حذف .

وقد تبين لي بعد التدبر والدراسة أن هناك إعجازًا رائعًا فى كتابة الكلمة القرآنية يتمثل في أن حروف الكلمة القرآنية ترسم صورة صادقة للمعنى المراد سواء بحذف بعض الحروف ، أو بزيادتها ، أو بإبدالها ، أو بوصلها ، أو بفصلها .. إن الكلمة القرآنية حينما تحذف بعض حروفها تتلاصق وتقترب أكثر من بعضها ، فيوحي ذلك بصورة المعنى متلاصقة وقريبة ؛ كما يوحى ذلك بصورة سريعة نظرًا لقلة زمن حدث كتابة الكلمة ونطقها الناتج عن حذف بعض حروف الكلمة ؛ كما يوحى أيضًا في بعض الأحيان بقلة الشأن نتيجة لتصغير حجم الكلمة . وهذا كله طبقًا للسياق ، وأولويات الموضوع .. كذلك فإن الكلمة القرآنية حينما تزيد بعض حروفها عن الحروف المعتادة سواء نطقت هذه الحروف ، أو لم تنطق ؛ فإن هذا يوحي بصورة للمعنى كبيرة ، أو صورة متمهلة تحتاج إلى التدبر والتفقه ، ويوحي ذلك بطلب التدبر والتفكر والتمهل ... ونضرب فيما يأتي أمثلة لإعجاز كتابة القرآن .

أمثلة لحذف حرف ( الألف ) من كلمة ( صاحب ) في الآية / 34 / من سورة الكهف :

﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾
بدأ مالك الجنتين الحوار مع صاحبه ، وكانا صاحبين قريبين من بعضهما البعض لدرجة الالتصاق ؛ لذا جاءت كلمة
( صاحبه ) في هذه الآية الكريمة علي هيئة ( صحبه ) . أي : بحذف الألف الوسطية ؛ لتبين صورة صاحبين متلاصقين .

ثم تكلم مالك الجنتين ، وبدأ يكفر بالساعة وبالله سبحانه وتعالي .. حينئذ تغير فورًا رسم وكتابة كلمة ( صحبه ) بدون ألف وسطية إلى ( صاحبه ) بألف وسطية ؛ لتوحي بنوع من الانفصال فى الصورة ، ولتوضح الانفصال الايماني ، رغم رفقة الزمان والمكان ، حيث جاء ذلك في الآية / 37 / من نفس السورة :
﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾
وجاء رد صاحبه بقوله :﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ سببًا مباشرًا للبعد عنه ، وسببًا لنشوء الألف الوسطية في كلمة ( صاحبه ) ؛ لتوحى بالانفصال .
ولو تدبرنا كل كلمة ( صاحب ) في القرآن الكريم كله ، لوجدناها تأتي بصورتين مختلفتين : إحداهما بدون ألف وسطية . والأخرى بألف وسطية .

وفي حالات وجود الألف الوسطية نجد أن هناك نوعًا من الانفصال ؛ فمثلاً حينما يتكلم القرآن الكريم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه الكافرين ، يقول :
﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾(النجم: 2) ،
﴿ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ﴾(سبأ: 46) ،
﴿ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ﴾(التكوير :22)

وكلها تحتوي على الألف الوسطيه الفاصلة ، غير أنه حين يذكر القرآن الكريم سيدنا أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتي كلمة ( صاحبه ) بدون ألف ؛ لتبين الصحبة الحقيقية والالتصاق الإيماني :
﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ﴾(التوبة: 40) .

كذلك تأتي كلمة ( صاحبته ) بمعنى الزوجة بدون ألف على شكل ( صحبته ) في القرآن الكريم كله ؛ لتبين التصاق الزوجية :

﴿ وَصَحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴾(المعارج: 12) ،
﴿ وَصَحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴾(عبس: 36)

كذلك حين يتكلم القرآن الكريم عن الأبوين الكافرين ، والابن المؤمن ، فإنه يخاطب الابن ، فيقول :

﴿ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾ (لقمان: 15)

حيث جاءت كلمة ( صاحبهما ) بألف وسطية ؛ لتوحي بعدم وجود التصاق إيماني .

أما حين يتكلم القرآن الكريم في سورة الكهف عن سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح ، فإنه يقول له :
﴿ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَحِبْنِي ﴾
(الكهف: 76) ، بحذف الألف ؛ لوجود الالتصاق الإيماني بينهما .

كذلك فإن حذف بعض الحروف من بعض الكلمات القرآنية يوحي بمعانٍ متعددة ، حسب السياق القرآني ؛ لأن الحذف يقلل زمن الحدث ، أو زمن الكتابة ؛ لذا فإنه يمكن أن يوحي بالسرعة . فلو تدبرنا كلمة ( باسم ) في القرآن الكريم كله ، لوجدناها تأتي بشكلين : أحدهما محذوفة الألف ؛ مثل
:﴿ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾(الفاتحة: 1)-
﴿ بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾(هود: 41).
والثاني بألف وسطية ؛ مثل :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾(العلق: 1) –
﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ (الواقعة 74 ).
وحذف الألف فى كلمة ( بسم ) يوحي بأنه يجب علينا بسرعة الوصول إلى الله تعالى بأسرع الوسائل ، والبدء باسم الله بأقصى سرعة . أما الحالات التي جاءت فيها ( باسم ) بألف الوصل ، فإنها جاءت بقصد التسبيح ، أو القراءة ؛ وهي أمور تحتاج إلى التفكر والتدبر والتمهل .

كذلك فإن حذف بعض الحروف من الكلمات القرآنية يمكن أن يوحي بقلة الشأن ؛ وذلك حسب السياق ؛ لأن انكماش الكلمة يؤدي إلى انكماش الصورة ، وانكماش المعنى . ونلاحظ ذلك فى كلام صاحب مالك الجنتين فى سورة الكهف ، حين يقول له : ﴿ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً ﴾(الكهف: 39) ، فجاءت كلمة ( ترن ) محذوفة حرف الياء الأخيرة ؛ وذلك ليوحي بأن مالك الجنتين يستصغره ، ويراه قليل المال ، وقليل الولد .

كذلك فإن الحذف يوحي أيضًا بالانكماش والتقوقع حسب السياق ؛ فمثلاً حين يتكلم القرآن عن قواعد البيت ، يأتي بالألف الوسطية الصريحة :﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾(البقرة: 127) ؛ لتدل على عمق القواعد .. غير أن القرآن الكريم حين يتكلم عن القواعد من النساء- أي : العجائز- تأتي ( القواعد ) بدون ألف صريحة ؛ لتدل على انكماش النساء في الكبر وهمودهن وقلة حركتهن :﴿ وَالْقَوَعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾(النور: 60) .

كذلك فإن الحذف يوحي بعدم الدخول فى التفصيل . أما فى حالة وجود الألف فيوحي بنوع من التفصيل ، فنجد مثلاً كلمة
( سموت ) قد وردت في القرآن الكريم كله / 189 / مرة بدون ألفي المد .. ووردت مرة واحدة فقط ( سموات ) بألف .. ومن العجيب أن تأتي هذه المرة فى سورة فصلت ، حيث تم تفصيل السموات ، وأن لكل سماء أمرها ؛ وذلك في الآية / 12 / :
﴿ فَقَضَهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ﴾

كذلك فإن الحذف يوحي بالقرب ، حيث نلاحظ أن حرف النداء ( يا ) ورد فى القرآن الكريم كله بدون ألف :
﴿ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ ﴾(الأعراف: 59)-
﴿ يَرَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ﴾(الزخرف: 88 ) ــ
﴿ يَصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا ﴾(هود: 62)-
(يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾(البقرة : 21 )-
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى ﴾ (البقرة : 55 )
وهذا يرسم صورة رائعة للقرب ، حيث يوحي حذف حرف الألف بكامل القرب ، وبأن النداء لابد أن يكون من قريب ؛ ليوحي بالألفة .. ونرى الإعجاز كاملاً فى حذف حرف النداء كله من كلمة ( يرب ) ؛ لتكون فقط ( رب ) ، فتوحي بالقرب الكامل :

﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾(البقرة: 127)-
﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾(آل عمران: 


كذلك فإن حذف حرف الألف يوحي بعدم التوسع في بعض الأمور ؛ فمثلاً حينما نتدبر قوله تعالى :﴿ الطَّلقُ مَرَّتَانِ ﴾ فى الآية / 229 / من سورة البقرة :﴿ الطَّلقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَنٍ ﴾ ، نجد أن كلمة ( الطلاق ) جاءت بدون ألف ؛ لتوحى بأنه مازال هناك في المرتين من الطلاق ارتباط بين الزوجين فى فترة العدة ؛ ولتوحي بعدم التوسع في الطلاق . كذلك جاءت ( مرتان ) بالألف الوسطية ؛ لتوحي بانفصال كل مرة طلاق ، وبأنه لا يكون الطلاق مرتين ، أو ثلاث دفعة واحدة
ومن عجائب القرءان: ان تاتي كلمة ( الطلق ) مرتين لفظيا في القرءان كلهفي لاليتين
( الطلق مرتان) البقرة229
﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلق فإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ (البقرة : 227 )

كذلك نجد أن إبدال بعض الحروف بحروف أخرى فى الكلمات القرآنية ؛ وذلك لتغير صورة الكلمة ، وبالتالي إعطائها معنى صادقًا .. ونضرب لذلك الأمثلة الآتية بصور مختلفة ؛ وهي ( رءا ، و رأى ) ، و( طغا ، وطغى ) .

نجد كلمة ( رءا ) قد وردت إحدى عشرة مرة ، وآخرها ألف . ووردت كلمة ( رأى ) مرتين فقط ، وآخرها حرف الياء ..
وحين نتدبر المرات التي وردت فيها كلمة ( رءا ) بحرف الألف ، نجد أنها كلها رؤية بصرية :
﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليْلُ رَءَا كَوْكَباً ﴾ (الأنعام: 76)-
﴿ فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ ﴾(يوسف 28) )

ونظرًا لأن الرؤية بصرية ، جاءت نهاية كلمة ( رءا ) بالألف ؛ لتدل على وجود حاجز للرؤية ، أو حدود لها .

غير أنه حين يتكلم القرآن عن رؤية البصيرة النافذة أو رؤية الفؤاد ، تأتي كلمة ( رأى ) تنتهي بحرف الياء الذي يوحي بالامتداد . وقد جاءت بهذا الشكل في موضوعين اثنين من القرآن الكريم ، خاصتين بالرسول صلى الله عليه وسلم ، حينما بلغ السموات العلى وسدرة المنتهى ، حيث كانت الرؤية الحقة بدون حدود ؛ وذلك فى سورة النجم .. قال تعالى :

﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾(النجم: 11)-
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾(النجم18) ) .

كذلك وردت كلمة ( طغا ) بالألف فى نهايتها ، حينما ذكر الله سبحانه وتعالى طغيان الماء المغرق لقوم نوح :

﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾(الحاقة: 11)

وجاءت بالألف فى آخرها ؛ لتوضح أن طغيان الماء كان للأعلى بامتداد حرف الألف حتى يغرق .

ووردت كلمة ( طغى ) فى نهايتها حرف الياء الممتد ، حينما تكلم القرآن عن طغيان فرعون ، حيث يوحي ذلك بامتداد طغيان فرعون فى الاتجاهات العرضيه والجانبية :

﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾(طه: 24)-
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾(طه: 43)

والقرآن الكريم يحتوي على مئات الأمثلة من هذه الكتابة المخصوصة للكلمات القرآنية التي توضح صورة المعنى المراد ، وتجعل الكلمة القرآنية صادقة معبرة :
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً ﴾(النساء: 87)
( ومن اصدق من الله قيلا ).النساء 122

سبحان الله لهذه الكتابة الفريدة للقرءان الكريم التي وراءها معاني رائعة
محمد شملول

المصدر -- مصحف المدينة النبوية اصدار مجمع الملك فهد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الرومانسية

الغرور بين الحق والباطل

أنبياء الفلسفة