قميص الصوفي في الفناء ج ٣

قميص الصوفي في الفناء ج ٣

في توحيد التصوف والصوفية بين الفناء والبقاء عن ما يكون للعبد الذي يريده التوحيد الإلهي، هو أن التوحيد خروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سمة فناء السرمدية، وينبغي من وراء هذا أن يكون العبد كما كان قبل أن يكون أي أن يعود إلى أوله إلى الله، يبقى الله كما لم يزل ويكون العبد كما لم يكن، وبيان على ذلك في اعتماده على ما قاله عز وجل 
" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين " 
فمن التأكيد عن  هذة الآية على أن التوحيد دين الفطرة، وأن الخلق وحدوا الله بفطرتهم بعد ولادتهم لما قام لهم من الشواهد والدلائل على الله تعالى وحدانيته، لأن هذة الدلائل تقوم مقام الاشهاد حيث الدلائل التوحيد في الوجود حجة على الخلق.
إن فطرة العبد المتصوف فطرة موحدة بالحياة الدينا بين الحق والخلق، حيث ما يتفكر فيه العبد عن التوحيد هو كيف يوحد الموجود بالوجود مابين المعرفة والحقيقة. فإن معرفة التوحيد معرفة عميقة بالأدراك والأتقان في كشف الحقائق الموجودة في وجود الخالق بالعالم الكوني مابين السموات والارض إلى أن يصل العبد وحده إلى الواحد الأحد الذي لا أحد ولا إله ولا وسيط له، بالتالي يكون التوحيد ربانياً و عبادياً من القلب الذي يقن مشاهدة التوحيد .
يعتبر أبو القاسم الجنيد البغدادي أول من تكلم على لسان التوحيد ويعد من أرباب علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف حيث يجمع بين الشريعة والحقيقة في تصويره معاني التصوف التي تنتهي به إلى وحدة الشهود. 
ولهذا عن المعرفة التوحيدية الصوفية فرّق الجنيد عن المعرفة بأنها نوعين وهما معرفة تعرف ومعرفة تعريف. فالمعرفة الأولى تعني أن يعرف الله عز وجل نفسه ولعباده ويعرفهم الأشياء به " فكان أول وارد الحق بتأدية شواهده إبرازه لهم "
واما معرفة الثانية فهي أن يرى الله آثار مقدرته لعباده في أنفسهم وفي الآفاق، فهذة الأشياء تعكس لهم وجود صانع لها هو الله . 
إن المعرفة التي أقرها الجنيد تصل به وتنتهي إلى التوحيد بإقرار افراد الله الموحد بتحقيق وحدانيته وكمال أحديته أي بأن الله واحد لم يلد ولم يولد، وبفني الصفات عنه بالكيف والحيث والاين ونفي الأضداد والأنداد والأشباه عنهم من دون تصوير ولا تشبيه ولا تمثيل، لأنه تعالى إله واحد فرد " ليس كمثله شيء " ، حيث يجب التفريق بين صفة الخالق وصفة المخلوق وصفة الله القديم من حيث المحدث من الاقرار بأولية الله وأزليته ولا ثاني معه ولا شيء يفعل فعله وأفعاله خالصة له.
إذا توحد العبد الصوفي في حالة موجودة باليقين التام، فلقد فنى العبد نفسه إلى الحب الإلهي الذي يقوده من الفناء إلى البقاء في توحيد الإلهي المقدس الجليل، حيث يتوحد بالتصوف من جبلة الإنسانية التي يتجلى في صفحاتها معنى التوحيد في وحدة الوجود. 
روح العبد الصوفي له صفوةً عبادية لله تعالى للأولياء الصالحين اللذين كانت أرواحهم موجودة في عالم الغيب أو الأزل أو الذر قبل وجود الأبدان، وإن الله بمشيئته وإرادته نقلهم من عالم الغيب إلى عالم الوجود حيث أخرجهم وجعلهم في صلب آدم عليه السلام، وإن الله خاطبهم وهم غير موجودين لكن وجودهم كان في الله تعالى بوجوده لهم فهم " واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم ، فكان الحق بالحق في ذلك موجوداً بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ولا سواه. 
اما الفناء الذي يريده الجنيد أن تفنى نفس العبد عن أفعاله وأعماله لقيام الله في ذلك، أي تخلصه من طبيعته البشرية بحيث تنعدم أنيته وذلك في قول الجنيد :
" أفناني بإنشائي لما أنشاني في حالة فنائي " فمن هنا يكن العبد شبحاً بين يدي الله لأن الله يدبر له في أحكام قدرته من بحار توحيده من خلال فناء العبد عن نفسه وعن الخلق وكل ما سوى الله مستجاب لحقائق وجود وحدانية الله لقربه منه بعد ذهاب حركته وقيام الحق له فيما أراد منه منتهياً في فنائه بالله إلى عودته إلى أوله، فيكون كما كان قبل أن يكون . 
إن حقيقة التوحيد موجودة إذا كان العبد حاضراً بالوجود الكامل الذي يأخذه من الدنيا إلى حالة النورانية بين القلب والروح، فالتوحيد منطلقاً عبر يقينية القلب و تزكية النفس وتسمية الروح أمام الحق الباري العظيم. فكل ما هو مكتوب عن التوحيد الإلهي من الكتب السماوية هو لأجل أن تكون الأمم أمة واحدة معبودة وموحدة  إلى رب العباد الأحد الواحد. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفلسفة الرومانسية

الغرور بين الحق والباطل

أنبياء الفلسفة